كان الأستاذُ الشهيرُ المثلَ الأعلى للدقةِ في كلِّ شيءٍ؛ لذلك قَدِمَ إلى دار العدالة قبلَ الموعدِ المحددِ في ورقة الدعوة إلى الحضور بخمس دقائق. وَانْتَظَرَ نصفَ الساعةِ يترقبُ قبلَ أن يدعوَهُ قاضي التحقيق لسماع أقواله، ولم يكن بالمحكمة غيرُ أشخاص ستة!
وآثر الأستاذ أن يجلسَ بجوارِ تاجرٍ وامرأتِهِ جِيْءَ بهما للتحقيق في حادثٍ آخَرَ فما استطاعا أن يكتما اضطرابَهما من جَرَّاءِ الاصطدامِ بالعدالة لأول مرة! إِنَّ مظهر الأستاذِ بوجهِهِ الأجردِ وعينيه المحتجبتينِ خلفَ نظارتِهِ السوداءِ وردائِهِ الرسميِّ، كل ذلك قَذَفَ الرَّوْعَ في قَلْبَيْهِمَا، فانتبذا مكانًا قَصِيًّا وأخذا يتهامسان!
- قال الرجل لامرأته: أكبر الظن أنه من رجال الشرطة السِّرِّيِّينَ!
- وقالت المرأة وهي تلقي نظراتِها على تلك الشخصية المحجبة بشتى الأستار وذلك الوجه الجامد وقد مُلِئَت منه رُعْبًا: يا اللهُ! كم له من مظهرٍ كاذبٍ، وكم هو مخوف مرهوب!
وبينما كان يمرُّ ذلك المنظرُ الذي يثيرُ الضحكَ من دونِ أَنْ يُحِسَّهُ ذلك الأستاذ الذي اتخذ دراسةَ القلبِ الإنسانيِّ صناعةً له لا يُقَصِّرُ عَنِ التَّغَلْغُلِ في صميمِهِ .. كان قاضي التحقيقِ يتحدثُ إلى صاحبٍ له في غرفةٍ مجاورةٍ عُلِّقَتْ على جدرانِها صُوَرُ نَفَرٍ من كبارِ المجرمينَ قد اتخذها القاضي "معتز" غرفةً للتجملِ والزينةِ، وحجرةً للتدخينِ، ومكانًا يفرجُ فيه عن صَدْرِهِ بالثرثرةِ البريئةِ بمنجاةٍ مِنْ سَمْعِ كَاتِبِ التَّحْقِيقِ وَبَصَرِهِ.
ولم يكن ذلك القاضي قد ناهز الأربعين وهو وضيء الْمُحَيَّا، متأنقٌ في مَلْبَسِهِ، يتجملُ بالخواتمِ في أصابعه. تناول القاضي الورقة التي كَتَبَ عليها الأستاذُ اسمه في صورة واضحة جميلة ثم أطلعَ صديقَهُ عليها طالبًا إليه أَنْ يُنْعِمَ النظرَ فيها! ولم يَكَدْ يتأملُ الورقةَ حتى صاحَ قائلًا: أُقَدِّمُ إليكَ تهانِيَّ الْحَارَّةَ!
فالحقُّ إنها فرصةٌ ذهبيةٌ أَنْ يتحدثَ المرءُ إلى ذلك الرجلِ، أرأيتَ الفصلَ الذي عقدَهُ عَنِ الْحُبِّ! في أي كتاب لا أدري! ما أراه إلا رَجُلًا عليمًا بأهواءِ النِّسَاءِ .. لَكِنْ عَمَّ تَسْأَلُهُ؟ هَلْ يتعلقُ الأمرُ بحَادِثَةِ السَّرِقَةِ الشَّهِيرَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا الْمِسْكِينُ منذُ أَعْوَامٍ في شارعِ جامعةِ الدُّوَلِ العربيةِ ونشرتها الصحفُ؟ حَيْثُ كانَ يتسلمُ راتبه الذي تضعه له الجامعة الأمريكية في بنك "السي آي بي CIB" فَسَرَقَهُ اللِّصَّانِ (خالد مهران الأُسْيُوطِيُّ الشهير بصدام) و(محمد أحمد البولاقي الشهير ببلية)!
- فقال القاضي: لا، فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ أُغْلِقَتْ، بَلْ سَأَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يُدْلِيَ بِمَعْلُومَاتِهِ عَنْ جِنَايَةِ "رامي" فلقدِ استقبلَ الشابَّ أكثرَ مِنْ مَرَّةٍ، والدفاعُ طَلَبَهُ ليكونَ شَاهِدَ نَفْيٍ فِي الدَّعْوَى، وَلَقَدِ انْتُدِبْتُ لسؤاله!
- فقال له صاحبُهُ: ما أَشْوَقَنِي إلى رؤيتِهِ!
- فأجاب القاضي: إن كان هذا يسرك فما أيسرَهُ لك. فسأدعوه للدخولِ وحينئذٍ يتاحُ لك أن تراه!
ثم أمر القاضي باستدعاءِ الأستاذِ، فصافحَ الصديقُ القَاضِيَ قائلًا له: إلى اللقاءِ .. ولكي يُشْبِعَ فضولَهُ نظر إلى وجه الكاتب الجليل، وقد سبقت له به معرفة؛ إذ كان قد قرأ بعض مقتطفات من كتابِهِ "نظريةِ الْحُبِّ" في مقالاتِ الصُّحُفِ.
فما راعهما منه إِلَّا أَنْ شَهِدَا فيه الرجلَ الْحَيِيَّ الخجولَ، وهما اللذان طالما أبرزه لهما خيالهما في صورة رجلٍ صُلْبِ الْعَوَاطِفِ، مُتَحَجِّرِ الْقَلْبِ، لا ينفذُ إليه شعاع رحمة! فتبادلا نظرة الدهشة والذهول وانطبعتْ على شَفَتَيْهِمَا الابتسامةُ! وما لَبِثَ أَنْ خَرَجَ الصديقُ وأشار القاضي إلى الأستاذ بالجلوس.
ثم بَدَتْ على وجه قاضي التحقيق علاماتُ الْجِدِّ والخطورةِ، وحاول جُهْدَهُ أَنْ ينسابَ في ضمير الأستاذِ. وَأَيْقَنَ الأستاذُ أَنْ تَنَبُّؤَهُ قد صَدَقَهُ؛ إذ لَمَحَ الْمِلَفَّ الضخمَ الذي تناوله القاضي "معتز" مكتوبًا عليه بالخطِّ العريضِ "قضية رامي".
وسادَ السكونُ جَوَّ الغرفةِ حتى لا يُسْمَعَ إِلَّا ما لقلمِ كاتبِ التَّحْقِيقِ من صريرٍ! وَبَدَأَ الكاتبُ يدونُ المحضرَ في غيرِ مبالاةٍ شَأْنُهُ كَشَأْنِ هؤلاءِ الكتابِ الذين أَلِفُوا أن يكونوا آلاتٍ صَمَّاءَ في أثناءِ تسجيلِ أروعِ المآسي المطروحةِ أمامَ محاكمِ الجناياتِ! لا تمتازُ لديهم قضيةٌ من قضيةٍ أو جنايةٌ من أخرى، كما لا يمتازُ لدى اللَّاحِدِ ميتٌ من ميتٍ!
وقال القاضي: سأوفر عليك يا سيدي الأسئلة المألوفة، فَمِنَ الأسماءِ ما لا ينبغي جهلُها، وَمِنَ الرجالِ مَنْ لا يليقُ تجاهلُهم! فَلَمْ يَحْنِ الأستاذُ رأسه ردًّا على هذه التحية، فقال القاضي في سِرِّهِ: "ليس ذلك مألوفًا في التقاليد الاجتماعية ولا سائغًا في الأوضاع الأدبية"! ثم جَهَرَ قائلًا: والآن أتحدثُ عن الواقعة التي كانتِ السببَ في توجيه الدعوةِ إليك.
- هل تعلمُ الجنايةَ المتهمَ فيها الشابُّ "رامي"؟
- فاعتدلَ الأستاذُ في جِلْسَتِهِ بعدَ أَنْ كان قد أخذ الْأُهْبَةَ للإصغاءِ لأقوال القاضي، واتكأ بذراعه على الكرسي وأسندَ ذَقَنَهُ إلى يَدِهِ ووضعَ سَبَّابَتَهُ على خَدِّهِ، كَشَأْنِهِ حينَ يخلو إلى نَفْسِهِ، فيغرقُ في طوفانِ التفكيرِ، ثم قاطع القاضِي قائلًا: عفوًا يا سيدي، فليس لَدَيَّ معلوماتٌ عنها إطلاقًا!
- فأجاب القاضِي: لقد ذَكَرَتِ الصُّحُفُ وقائعَ تلك الجريمة بِدِقَّةٍ لَمْ نَعْهَدْهَا في سادتِنا الصِّحَافِيِّينَ! ثُمَّ حدَّثَ القاضي نفسَهُ: إنه يتحصنُ بالرياء، ليتقنَ تمثيلَ دَوْرِهِ، فيا لَلْحَمَاقَةِ!
- فقالَ الأستاذُ: معذرةً يا سيدي، فإني لا أقرأُ الصُّحُفَ!
- فتنفس القاضي بصوتٍ مرتفعٍ وهو مذهولٌ وقال في لهجةٍ يَمْلَؤُهَا الْحَنَقُ: حسنٌ يا سيدي، سألخص لك الاتهامَ في بضعِ كلماتٍ، وأنا شديدُ الأسفِ لِأَنَّكَ غيرُ واقفٍ على مُجْرَيَاتِ حادثٍ يَمَسُّ مِسَاسًا خَطِرًا مسئوليتَكَ الأدبيةَ، إِنْ لَمْ يَنَلْ مسئوليتَكَ القانونيةَ!
- وهنا لَمْ يَسَعِ الأستاذَ إِلَّا أَنْ هَزَّ رأسَهُ إيذانًا بالقلقِ الذي ساوره والاضطرابِ الذي مَلَكَ عليه مشاعرَهُ.
- فَتَهَلَّلَ وَجْهُ القاضي وقال: إنك تعلمُ يا سيدي مَنْ "رامي"؟ وما المركز الذي كان يَشْغَلُهُ لدى رجلِ الأعمالِ المشهورِ "عمرو"؟ فَإِنَّ لَدَيَّ بِمِلَفِّ الدَّعْوَى صُوَرًا لمراسلاتٍ عديدةٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وهو في فيلا "عمرٍو" وهي ناطقةٌ بأنك كنتَ القائدَ الْعَقْلِيَّ والزعيمَ الروحيَّ للمتهمِ!
- فَحَرَّكَ الأستاذُ رأسَهُ كَرَّةً أُخْرَى.
- واستطرد القاضي: هَلَّا تَتَفَضَّلُ فَتُصَارِحَنِي عَمَّا إذا كان ذلك الشابُّ قد خاطبك بشأنِ حياةِ تلك الأسرةِ التي تتكون من رجل الأعمال المصري المعروف [عمرو] وزوجة أخيه [عبد الرحمن] التي تُدْعَى (فاتن) وهي المجنيُّ عليها! وأختها الصغرى [فريال] الشهيرة بفراولة. وعبد الرحمن -كما تعلم- رجلٌ مُسِنٌّ دخل في غيبوبة منذ شهورٍ فهو في حكم الميت!
المهم هو أنه في صباح يوم الأحد الموافق 11 نوفمبر 2018 م دَخَلَتْ [فِرْيَالُ] غُرْفَةَ أُخْتِهَا (فاتن) لِتُوقِظَهَا فَوَجَدَتْهَا جُثَّةً هامدةً!
وتوقفَ القاضِي، وَأَخَذَ يتصفحُ مِلَفَّ التحقيقِ وهو ينظرُ إلى الشاهدِ، فيبصرُ بالذهولِ وَقَدْ ارتسمَ على وَجْهِهِ، بصورةٍ لا تدعُ مجالًا للشكِّ في إخلاصِهِ، فاسترعى ذلك دهشةَ القاضي وقالَ في نَفْسِهِ: "إِنَّ الرجلَ لا يعلمُ من الأمرِ شيئًا، فَيَا لَهُ مِنْ أَمْرٍ عجيبٍ!"، وظلَّ يتصفحُ وَجْهَ ذلكَ الرجلِ الشهيرِ وَهُوَ يُقَلِّبُ صحائفَ الدعوةِ غَيْرَ مُهْتَمٍّ!
وَكَانَ القاضي يحتاجُ إلى بعضِ المعلوماتِ عن تلكَ الشخصيةِ ليحيطَ بها خُبْرًا، فقد كانَ صاحبُها في ميدانِ الأفكارِ قويًّا لا يُبارى، وفي عالمِ الآراءِ قادرًا لا يُجَارَى، وفي دنيا النظرياتِ المجردةِ عالمًا لا يُشَقُّ له غبارٌ، فإذا جاءَ إلى ميدانِ الوقائعِ وَجَدْتَهُ الساذَجَ الْخَجُولَ!
ومضى القاضي في تلخيصِهِ ونفسيةُ فيلسوفِنا اللُّغَوِيِّ لديه مِنَ الطَّلاسِمِ وعقليَّتُهُ مِنَ الْأَلْغَازِ، فقال: وكان الطَّبِيبُ الذي اسْتُدْعِيَ على عَجَلٍ هو طبيبَ الأسرةِ [الدكتور خالد] ولم يترددْ ولو لحظةً واحدةً في الْجَهْرِ بِأَنَّ مظهرَ الْجُثَّةِ صريحٌ في الدَّلالَةِ عَلَى أَنَّ الموتَ غيرُ طبيعيٍّ!
فقد كان الوجهُ أَغْبَرَ والعينانِ بارزتينِ والجسمُ أسودَ! وعلى الجملةِ فكانتِ الدلائلُ كلُّهَا ناطقةً بِأَنَّ سببَ الموتِ هو التَّسَمُّمُ!
وَوُجِدَتْ زجاجةٌ بجوارِها بها بقايا جُرْعَةِ دواءٍ مهدئٍ كان لا بُدَّ لها من تناولِها في الليلةِ التي سَبَقَتْ يومَ مَوْتِهَا على مألوفِ عادتِها لتدفعَ عنها الأرقَ والاضطرابَ مِنْ ويلاتِ العذابِ الذي تَرَاهُ! وَهُوَ دَوَاءٌ خَطِرٌ إِنْ زَادَتْ كَمِّيَّتُهُ يَقْتُلُ!
وَعَثَرَ البستانيُّ على زجاجةٍ أخرى مِنْ نفسِ المهدئِ الذي تتناولُهُ (فاتنُ)، ولكنَّها كانتْ فارغةً تمامًا، وَكَانَتْ مُلْقَاةً تَحْتَ نوافذِ الغرفةِ. وَلَقَدْ أُلْقِيَتِ الزجاجةُ عمدًا لتتحطمَ ولكنْ صادفتْ أرضًا رِخْوَةً فَظَلَّتْ سليمةً. وتبينَ أَنَّ مادةَ هذا المهدئِ هِيَ التي تَسَبَّــبَتْ في تَسَمُّمِهَا وَمَوْتِهَا؛ لِأَنَّ الجرعةَ زَادَتْ عَنِ الْحَدِّ، وَجَاءَ التَّشْرِيحُ يُؤَيِّدُ الدَّعْوَى.
وهنا كان السؤال: أواقعةُ انتحارٍ هذه أم جريمةُ قتلٍ؟ وكيفَ السبيلُ إلى فكرة الانتحارِ وبواعثُهُ غيرُ موجودةٍ؟
أرى أَنَّ الانتحارَ فرضٌ لا يستسيغُهُ العقلُ! فينبغي إذن استبعادُهُ من دائرة الفروض. وكيف تقتلُ نفسَهَا من دونِ أَنْ تَخُطَّ كلمةَ إيضاحٍ لِتُلْقِيَ شيئًا مِنَ الضوءِ على هَذِهِ المأساةِ، وبغيرِ أَنْ تتركَ كتابًا يحملُ عباراتِ الوداعِ إلى أُخْتِهَا فريال!
وَلَمَّا سُئِلَ الصيدليُّ القريبُ من فيلتهم (بيتهم) قَرَّرَ أَنْ مُدَرِّسَ [فريالَ] اشترى منه هذا الدواءَ المهدئَ قبلَ مَقْتَلِها. وكان هذا المدرسُ (رامي) قد غادرَ الفيلا في نفسِ اليومِ الذي جاءَ فيه مِنْ سَفَرِهِ والذي اشترى فيه الدواءَ بدعوى أنه ذاهبٌ مرة أخرى لرؤيةِ أُمِّهِ المريضةِ! وذلكَ قَبْلَ اكتشافِ الْجُثَّةِ بساعاتٍ! زاعمًا أنه اسْتُدْعِيَ برسالةٍ على بريدِهِ الإلكترونيِّ!
وَلَقَدْ تضافرتِ الأدلةُ على أَنَّ الرسالةَ لا وجودَ لَهَا إِلَّا في خيالِهِ المريضِ، وَأَنَّ الخادمةَ [أم مريم] رَأَتْهُ في ليلة ارتكابِ الجريمةِ خارجًا من غرفةِ (فاتن) مرتين!
وَشَهِدَ الشُّهُودُ بِأَنَّ "رامي" كان دائمَ الاتصالِ بالفتاةِ، بل لقد وجدنا في غرفتِها خطابًا بِخَطِّ يَدِهِ بَعَثَ بِهِ إليها قَبْلَ وَفَاتِها!
فاستنتجُوا من تلك الدلائلِ مجتمعةً الافتراضَ الآتي:
أَنَّ (فاتن) قد شَغَفَتْ (رامي) حُبًّا وَمَلَكَتْ قَلْبَهُ، فلمَّا هَامَ بِحُبِّها وَعَرَفَ أَنَّ الوصولَ إليها مستحيلٌ بِسَبَبِ [عَمْرٍو] تَهَدَّمَتْ قُصُورُ آمَالِهِ فَاخْتَمَرَتْ فِي رَأْسِهِ جَرِيمَةُ الإجهازِ عليها فَقَتَلَهَا لِيَأْسِهِ مِنِ اجتماعِهِمَا! أو لِيُخَبِّئَ شيئًا لَمْ تَكْشِفْ عَنْهُ التحقيقاتُ! وَأَيَّدَ هذا الافتراضَ أكاذيبُ الفتى (رامي) حينَ سُؤَالِهِ .. فقد أنكرَ بَتَاتًا أنه كَتَبَ إلى (فاتنَ) فقذفوا في وَجْهِهِ بِكِتَابِهِ إليها!
ووجدوا في غرفةِ المجنيِّ عليها بقايا أوراقٍ محترقةٍ أُضْرِمَتِ النيرانُ فيها ليلةَ الوفاةِ، وَمِنْ بَيْنِهَا نِصْفُ غِلافِ خِطَابٍ بِخَطِّ المتهمِ. وَأَنْكَرَ أَنَّهُ تَوَجَّهَ في تلك الليلةِ إلى غرفةِ (فاتن) فواجهُوه بالخادمة [أم مريم] التي رَأَتْهُ خارجًا منها مرتين، فَشَهِدَتِ الخادمةُ بِرُؤْيَتِهِ.
أضف إلى هذا كله أَنَّ (رامي) لم يستطعْ أَنْ يُوَضِّحَ سببَ شراءِ المهدئِ! ثم إنه لَمْ يُعَلِّلْ تلك الرسالةَ الزائفةَ التي انتحلَ وصولَهَا إليه بِعِلَّةٍ مقبولةٍ!
وفوق ذلك كله فليس هناك باعثٌ على ارتكابِ الجريمةِ غيرَ اضطرامِ جَذْوَةِ الانتقامِ في صدرِ عاشقٍ خابتْ آمالُهُ، فقد وُجِدَتْ حُلِيُّ المجنيِّ عليها تامَّةً، ونقودُهَا كاملةً!
فارتسمتْ للجنايةِ الصورةُ الآتيةُ:
تسلل رامي إلى غرفة فاتن عِلْمًا منه بأنها تتناول جرعةَ دوائِها في نهايةِ كُلِّ يومٍ لتستطيعَ أَنْ تنامَ في هدوءٍ وسكينةٍ فزادَ تلكَ الجرعةَ بِكَمِّيَّةٍ تَكْفِي للقضاءِ عَلَيْهَا فِي لحظةٍ! فما استقرتْ بِجَوْفِهَا حتى قَضَتْ نَحْبَهَا من دونِ أَنْ تَقْوَى على استدعاءِ أحدٍ لإسعافِها ثم لاذ بِالْفِرَارِ قبلَ اكتشافِ الْجُثَّةِ خشيةَ افتضاحِ أمرِهِ!
فَأَمَّا الزُّجَاجَةُ التي وُجِدَتْ في الْحَدِيقَةِ فارغةً فلا بُدَّ أن يكونَ ألقى بها من نافذة غرفتِهِ القريبةِ مِنْ غرفةِ فاتن!
وعلى الجملة فإن (رامي) معتقلٌ اليومَ في سجن طرة، وَسَيُقَدَّمُ إلى محكمةِ الجناياتِ في شهر مارس 2019 م لاتهامه بأنه قَتَلَ (فاتنَ)!
وَقَدْ تَحَصَّنَ رامي بِالصَّمْتِ عَلَى الرغمِ مِنِ افْتِضَاحِ أكاذيبِهِ، وأبى أَنْ يجيبَ عمَّا وُجِّهَ إليهِ مِنْ أَسْئِلَةٍ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ بَرِيْءٌ وَلَيْسَ عليه أَنْ يدافعَ عَنْ نَفْسِهِ. وَرَفَضَ رَفْضًا باتًّا إنابةَ محامٍ يدافعُ عنه، واستسلمَ للحزنِ العميقِ استسلامًا لا يَدَعُ مَجَالًا لِلشَّكِّ في أنه أصبحَ صَرِيعَ وَخَزَاتِ الضَّمِيرِ. وَأَقْبَلَ على المطالعةِ والكتابةِ في مسائلَ فلسفيةٍ عَلَّهُ يَمْحُو الْأَثَرَ السَّيِّئَ الذي تركه الحزنُ في نَفْسِهِ؛ وَلِيُدَلِّلَ على أنه حُرُّ العقلِ طليقُ الفكرِ لَمْ تُلَوَّثْ يَدُهُ بِجَرِيمَةٍ وَلَمْ يُقْدِمْ على إِزْهَاقِ رُوحٍ بَرِيئةٍ! وَتِلْكَ قدرةٌ مسرحيةٌ غريبةٌ!
ولقدْ كانتْ مؤلفاتُكَ يا أيها الأستاذُ الفاضلُ ومؤلفاتُ بعضِ علماءِ النفسِ هي كُلَّ ما طلب، وكان لمؤلفاتِكَ في مكتبتِهِ الحظُّ الأكبرُ من عنايةٍ بها وانهماكٍ في مطالعتِها وقتلِها بَحْثًا وتمحيصًا، وَيَدُلُّ على ذلك ما خَطَّهُ بها من الشروح والتعليقات التي كانت تربو في بعض الأحيان على الأصول! ومن ذلك تستطيعُ أَنْ تحكمَ!
بينما كان القاضي "معتز" يتحدثُ .. قُدِّمَ إلى الأستاذِ نسخةٌ من كتابِ "تشريحِ الرُّوحِ" فَفَتَحَهُ اعتباطًا فما رَاعَهُ وَأَفْزَعَهُ إِلَّا أن رأى قُبَالَةَ كُلِّ صحيفةٍ مطبوعةٍ صحيفةً مكتوبةً بِخَطِّ المتهمِ تفيضُ شرحًا وتعليقًا .. وما فَاجَأَهُ إِلَّا أَنْ لَحَظَ التشابهَ التامَّ بينَ خَطِّهِ وَخَطِّ المتهمِ وَإِنْ كانَ الأخيرُ أكثرَ اضطرابًا. فأثار هذا التشابهُ دهشةَ الأستاذ، وبعثَ في نفسِهِ شعورَ الألمِ، فطوى الكتابَ، وَرَدَّهُ إلى القاضِي قائلًا:
- لا أَكْتُمُكَ يا سيدي أني مذهول مما أفضيتَ بِهِ إِلَيَّ! وإني لا أُخْفِي عليك أني لا أستطيعُ إدراكَ الْعَلَاقَةِ بينَ هَذِهِ الْجِنَايَةِ وبينَ كُتُبِي أو شَخْصِي كما لا أستطيعُ فَهْمَ طبيعةِ الشَّهَادَةِ التي يمكنُ أَنْ يُطْلَبَ مِنِّي أَدَاؤُهَا!
- فقال القاضي: ذلك أَمْرٌ هَيِّنٌ .. فمهما تكنِ الأدلةُ القائمةُ على اتهامِ "رامي" فإنها لا تقومُ إِلَّا على فروضٍ، والقرائنُ على ارتكابِهِ الجريمةَ قويةٌ، ولكن ليس هناك يقينٌ ثابتٌ!
وَلَمْ يَذْكُرِ القاضي للأستاذِ: أَنَّ إِحْدَى الْحُجَجِ التي يستندُ إليها الاتهامُ تتلخصُ في أَنَّ "رامي" قد أَفْسَدَتْهُ مطالعاتُهُ. وكانتِ الجهودُ مُنْصَبَّةً على حَمْلِ الأستاذِ على تحديدِ مَاهِيَّةِ المبادئِ التي كانَ الشابُّ يَعْتَنِقُهَا ويدينُ بها.
- فقال القاضي: أريدُ أَنْ نبدأَ مِنَ البدايةِ، ففي أي ظروف وفي أي تاريخ تعرفت برامي؟
- قال الأستاذ: كان ذلك منذ عامٍ، ولمناسبة بحثٍ مجردٍ عن الشخصيةِ الإنسانيةِ جاءَ لِيُقَدِّمَهُ بنفسِهِ إِلَيَّ.
- وهل رأيتَهُ مرارًا؟
- رأيتُهُ مرتينِ فَقَطْ.
- وما الأثرُ الذي تركَهُ في نفسِكَ؟
- هو أنه شابٌّ لديه استعدادٌ بديعٌ للتعمقِ في المباحثِ الفلسفيةِ، وأضفْ إلى ذلك حُبَّهُ لِلُّغَةِ العربيةِ الذي أسعدني!
كذلك أجاب الأستاذ وهو يَزِنُ كُلَّ كلمةٍ من كلماتِهِ!
فَاسْتَنْتَجَ القاضِي من هذه اللهجةِ البريئةِ المخلصةِ أَنَّ الرَّجُلَ يودُّ أن يواجهَ الحقيقةَ وَيُفْضِيَ بها! ثم أتبع ذلك بقوله:
- نعم، لقد كان استعدادُ الفتى للفلسفة بديعًا إلى حَدِّ أني دَهِشْتُ لهذا النُّضْجِ المبكرِ.
- أَلَمْ يُحَدِّثْكَ عن حياتِهِ الخاصَّةِ؟
- حدثني عنها قليلًا جِدًّا. وجملة ما أَفْضَى به إليَّ هو أنه كان يعيشُ مع والدتِهِ، وأنه نوى أَنْ يكونَ أستاذًا وأرادَ أَنْ يفرغَ نفسَهُ لوضعِ بعضِ المؤلفاتِ.
- فقال القاضي: حَقًّا لقد كان ذلك بعضَ بَرْنَامَجِ حياةِ المتهمِ الذي وجده المحققون بين بقايا أوراقِهِ التي أتلفها فيما بين سؤالِهِ الأولِ والقبضِ عليه، فجاء عملُهُ دليلًا على اتهامِهِ!
ثم أرادَ القاضي أن يدخلَ في صُلْبِ الموضوعِ حتى ينتزعَ من ذلك الأستاذِ دليلًا يضيفه إلى محضرِ تحقيقِهِ، فقالَ:
- هَلْ تَعُدُّ تسميمَ (فاتنَ) جريمةً؟
- فأجاب الأستاذ: لا ريبَ في ذلك من وجهةِ النظرِ الاجتماعيةِ! ولكن بالنسبة إلى الفيلسوفِ فليست هناك جريمةٌ أو فضيلةٌ! وما أعمالُنا إِلَّا وقائعُ من نظامٍ خاصٍّ خاضعةً لقوانينَ معينةٍ!
وهنا تَجَلَّتْ كبرياءُ الفيلسوفِ فقالَ: ستجدُ يا سيدي إيضاحًا لهذه المسألة وجوابًا شافيًا، وأجرؤ على الاعتقاد بِأَنَّهُ وافٍ لتلك النظرياتِ في كتابي "تشريحِ الرُّوحِ"!
- فقال القاضي: هل خُضْتَ في تلكَ المسائلِ مع رامي؟ وهل تعتقدُ أنه كان يشاطرُكَ آراءَكَ؟
- فأجاب الفيلسوف: في الغالبِ!
- فقال القاضي وقد أزاحَ الستارَ عن أدواتِ هجومِهِ: أفلا تعلمُ يا سيدي أنك تؤكدُ زعم [عمرو] (أخو زوج المجني عليها فاتن) أَنَّ المذاهبَ الحديثةَ هي التي أطاحتْ بالشعورِ الْخُلُقِيِّ في نفسِ ذلك الشابِّ، وَجَعَلَتْهُ خليقًا بارتكابِ جريمةِ القتلِ؟
- فأجاب الأستاذُ: إلقاءُ التَّبِعَةِ على مذهبٍ من المذاهبِ لِأَنَّ ذِهْنًا غيرَ مُتَّزِنٍ يُفَسِّرُهُ تفسيرًا خاطئًا .. فذلك كتحميلِ مكتشفِ مادَّةِ الديناميتِ وِزْرَ الجرائمِ التي تستخدمُ في ارتكابِها!
- وسألَ الأستاذُ القاضيَ: أتعتقدُ أني سَأُضْطَرُّ إلى الذَّهَابِ إلى المحكمةِ مَرَّةً أخرى لأداءِ الشَّهَادَةِ؟
- فقال القاضي: لا أظن هذا يا سيدي! وَأَرَى أَنَّ علاقاتِكَ بالمتهمِ كانتْ سطحيةً أكثرَ مما اعتقدتْ أُمُّهُ إن كان حَقًّا إنها لم تَزِدْ على هاتين الزيارتين والرسائل الفلسفية البحتة التي تبادلتماها!
وَأَعُودُ فأسألُكَ: أكاشفَكَ بشيءٍ عن حياتِهِ لدى أسرةِ عبدِ الرحمنِ وعمرٍو؟
- لم يكاشِفْنِي بشيءٍ إطلاقًا! وفوقَ ذلكَ الْقَدْرِ كَفَّ عَنْ مُرَاسَلَتِي منذُ التحاقِهِ بتلكَ العائلةِ!
- أَوَلَمْ تَلْحَظْ في رسالَتِهِ الأخيرةِ بوادرَ طموحٍ أو آثارَ قلقٍ أو مظاهرَ فُضُولٍ لا تُدْرِكُ ماهيَّتَهُ؟
- فأجاب الأستاذ: لَمْ أَلْحَظْ شيئًا شبيهًا بذلك.
- فصمت القاضي هُنَيْهَةً ثم قال وهو ينعمُ النظرَ إلى ذاك الشاهدِ الغريبِ: لا أودُّ أن أحتجزكَ أكثرَ مما احتجزتُكَ. فوقتُكَ ثَمِينٌ، وأرجو أن تسمحَ لي بِأَنْ أُلَخِّصَ لكاتبِ التَّحقيقِ الأجوبةَ التي أَدْلَيْتَ بِهَا إليَّ؛ إذ هو لم يَأْلَفِ التحقيقاتِ الخاصةَ بمثلِ تلكَ الآراءِ الدقيقةِ ثم تُوَقِّعْ أنت بإمضائك!
وبينما كان القاضي يُمْلِي على كاتبِ التحقيقِ ما قد ينيرُ السبيلَ أمامَ العدالةِ كان الأستاذ مرهقًا؛ لِأَنَّ الظروفَ المروعةَ التي أحاطتْ بِهِ قد قَضَتْ على مَلَكَةِ تفكيرِهِ فَوَقَّعَ بإمضائِهِ من دونِ أَنْ ينظرَ بعدَ أن تلا عليه القاضي "معتز" شهادته!
وقبلَ أَنْ يبرحَ غرفةَ التحقيقِ قال:
- وإذن فيمكنُ أَنْ أَكُونَ على يقينٍ بأني لَنْ أُكْرَهَ على الذَّهَابِ إلى المحكمةِ مرةً أخرى؟
- فقال القاضي وهو يُشَيِّعُهُ إلى البابِ: أَرْجُو أَلَّا تكونَ مُضْطَرًّا إلى ذلك!
وما لبثَ أَنْ غادرَ الأستاذُ غرفةَ التحقيقِ... والتفت القاضي إلى الكاتب فقال: ذلك مجنون! أولى له أَنْ يُعْتَقَلَ في إحدى الْمَصَحَّاتِ العقليةِ. فبمثل تلك الآراء التي يفيضُ بها هذا الفوضويُّ العقليُّ تَضِلُّ عُقُولُ النَّشْءِ! ويا عَجَبِي له! كيف يتبدى في مظاهرِ حُسْنِ النيةِ!
أَوَتَدْرِي أنه قد يُطِيحُ برأسِ تلميذِهِ بأفكارِهِ الغريبةِ الشاذَّةِ! وبعد ذلك فكلُّ ما يَعْنِيهِ هو أَنْ يعلمَ: أيذهبُ إلى المحكمةِ أم لا!
يا له من مجنونٍ! ثم ضَحِكَ القاضي والكاتبُ، وقال أولهما في نفسه: ما كنت أَحْسَبُ أَنَّ الأستاذَ الذي ملأ ذِكْرُهُ الأفواهَ والأسماعَ على تلكَ الصورةِ!